تحرير الأسرى- نصر المقاومة الفلسطينية ومنعطف تاريخي للوطن

لقد شكَّل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من براثن سجون الاحتلال الصهيوني هدفًا قوميًا ساميًا لدى فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة، وفي الوقت نفسه، كان هذا الملف بمثابة تحدٍّ جسيم أمام قيادة الفصائل، وخاصةً تلك القيادات التي انغمست بصورة مباشرة في النضال والكفاح الفلسطيني، وعاشت مرارة السجن والاعتقال، فتعاملت مع قضية تحرير الأسرى على أنها دينٌ مستحقٌ في أعناقهم، وثقلٌ على كاهلهم، لا مناص من الوفاء به، وهو ما عبرت عنه مرارًا وتكرارًا قيادات المقاومة، وتمكنت من إنجازه في محطات عديدة ومختلفة.
على امتداد مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، تم إبرام العديد من صفقات تبادل الأسرى من قِبل طيف واسع من الفصائل الفلسطينية المجاهدة، والتي أفضت إلى إطلاق سراح الآلاف من الأسرى الفلسطينيين الأبطال، ومن أبرز هذه الصفقات تلك التي أُبرمت في الأعوام: 1968، 1979، 1983، 1985، 2009، 2011، 2023، وأخيرًا الصفقة الجارية على مراحل في هذه الأيام.
علاوة على ذلك، تم الإفراج عن أعداد كبيرة من الأسرى بموجب اتفاقيات أوسلو عام 1993، باستثناء أولئك المقاومين الذين حُكم عليهم بالسجن المؤبد، والذين تتضمن قضاياهم إدانة بقتل جنود أو مستوطنين صهاينة.
ومع ذلك، فإن اتفاقية أوسلو، التي لم تفلح في إطلاق سراح الأسرى المحكومين بالمؤبد، وشكلت أيضًا عائقًا أمام المقاومة في تنفيذ عمليات تؤدي إلى تحرير الأسرى، قد أسهمت في خلق واقع معقد في هذا الملف الحساس، يكتنفه الإحباط والشعور بالعجز.
إذ شهد هذا الملف الوطني بالغ الأهمية جمودًا كبيرًا استمر لما يقرب من ثلاثة عقود، ولم ينتهِ هذا الجمود إلا بعد نهضة المقاومة وتطورها من جديد في قطاع غزة عقب الانتفاضة الثانية، حيث كانت آخر صفقة أُفرج فيها عن أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات في عام 1985، ولم تتمكن المقاومة من الإفراج عن دفعة جديدة منهم إلا في عام 2011، مع العلم بأن الانتفاضة الأولى عام 1987، والانتفاضة الثانية عام 2000، قد أسفرتا عن الحكم على المئات من المعتقلين الفلسطينيين بأحكام مؤبدة وعالية جدًا.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة للصفقات التي سبقت الإشارة إليها، فإن للصفقة الجارية في هذه الأيام أهمية خاصة، وتتميز بمجموعة من الخصائص التي تجعلها فريدة من نوعها في تاريخ الشعب الفلسطيني، وستشكل، إذا ما قُدر لها أن تكتمل حتى النهاية، منعطفًا تاريخيًا حاسمًا في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية.
فعلى الرغم من أن الصفقات السابقة أدت إلى إطلاق سراح أعداد كبيرة من المقاومين ومن القيادات الفلسطينية المؤثرة من مختلف الفصائل، فإن صفقات اليوم تأتي بعد معركة طاحنة استمرت 15 شهرًا، وهي المعركة الأطول والأكثر شراسة في التاريخ الوطني والنضال الفلسطيني بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي دفع خلالها الشعب الفلسطيني في جغرافيا صغيرة ومحاصرة ثمنًا باهظًا، وقدم تضحيات جسيمة، تضفي على المشهد معانيَ خاصة ومسؤوليات جمة.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الحرب لم يكن هدفها الوحيد هو تحرير الأسرى، بل كانت لها أهداف واعتبارات سياسية ووطنية أسمى، عبرت عنها قيادة المقاومة في أكثر من مناسبة، مرتبطة بالسياسات والاعتداءات الصهيونية المتواصلة، والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية العادلة.
وبناءً عليه، فإن التضحيات التي ترتبت على هذه المعركة تأتي في سياق مشروع التحرر الوطني الفلسطيني الشامل، وليس فقط بهدف تحرير الأسرى، وإن كان هذا الهدف وحده، يستحق التضحية وخوض المعارك، ويجعل من تحرير الأسرى بهذه الأعداد الكبيرة والأوزان الثقيلة إنجازًا وطنيًا عظيمًا، نوعيًا وإستراتيجيًا.
فتحرير الأسرى والإنسان الفلسطيني من غياهب السجون الإسرائيلية، هو فكرة نبيلة وقيمة عليا في حد ذاتها، وتحمل دلالات رمزية كبيرة تؤشر على أهمية التحرر الكامل والانعتاق من نير الاحتلال البغيض، وتتفق مع الإيمان الراسخ الذي يحمله الفلسطينيون والمبادئ السامية التي يعتنقونها، ولا سيما حركات المقاومة الفلسطينية، التي تعتبر أن القيمة الأسمى في هذه الحياة هي الإنسان، وأن الحرص على صون حياته، والعمل الدؤوب على تحريره، وتوفير الحياة الكريمة اللائقة به، هو من أولى الأولويات التي تتبناها هذه الحركات.
ومما يُسجل بأحرف من نور لحركات المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حركة حماس وجناحها العسكري الباسل (كتائب عزالدين القسام)، أنها لم تألُ جهدًا في سبيل الإفراج عن المقاومين الأسرى منذ السنوات الأولى لتأسيسها المباركة، ولم تتوقف مساعيها لإنجاز هذا الهدف السامي، وقامت بعشرات العمليات النوعية لخطف الجنود والمستوطنين بهدف التبادل، وقد تكللت جهودها بالنجاح في بعضها، ولم يحالفها التوفيق في البعض الآخر، وذلك لأن الاحتلال الصهيوني الغاشم كان يُرجح خيار التخلص من المختطف وقتله على أن يدفع الثمن ويفرج عن المقاومين الفلسطينيين الأباة، وهو ما حدث في مرات عديدة كان آخرها في معركة طوفان الأقصى البطولية، لأنه يدرك تمام الإدراك أهمية ومدى تأثير الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين رغمًا عنه، ودون تقديم أي أثمان سياسية من قِبل المقاومة.
اليوم، يعيش الفلسطينيون، جنبًا إلى جنب مع حرب الإبادة الجماعية الشرسة، حرب إرادات وصمود وتثبيت لمفاهيم وقيم راسخة ستؤثر تأثيرًا عميقًا على مستقبل القضية الفلسطينية والصراع المرير مع الاحتلال الصهيوني، ومن أهم مظاهر هذه الحرب فرض إطلاق سراح المقاومين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية رغمًا عن أنف الاحتلال ووفق الآلية التي حددتها المقاومة، وهو ما يُعتبر، لاعتبارات جمة، إنجازًا وطنيًا إستراتيجيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وذلك للأسباب التالية:
- أولًا: إنه يمثل كسرًا لإرادة الاحتلال المهزومة، الذي تحدث بعض وزرائه وقادته عن ضرورة سن قانون جائر لإعدام هؤلاء المقاومين الأبطال، واليوم يتم الإفراج عنهم رغمًا عن أنف الاحتلال وقادته السياسيين والعسكريين والأمنيين، وهو ما يعني إحباط أحد أهم الأهداف الخبيثة التي أعلنها بنيامين نتنياهو في بداية الحرب.
- ثانيًا: هذه العملية النوعية لا تتم في سياق صفقة سياسية أو تنازل وطني مذل أو بتوافق أمني مع الاحتلال البغيض، كما حدث في اتفاقية أوسلو المشؤومة التي تم فيها الاعتراف بالكيان الصهيوني والتنازل عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، بل جاءت في سياق المقاومة الباسلة والتحدي الصارخ وفرض الإرادة الوطنية الفلسطينية.
- ثالثًا: إن الإفراج عن هؤلاء الأسرى الأبطال كان نتيجة لمعركة عسكرية غير مسبوقة، أهدافها وتأثيراتها جمة، وأبعادها إستراتيجية ووطنية، وما رافقها من استحقاقات هائلة وتضحيات استثنائية لم يكن مرتبطًا حصرًا بتحرير المقاومين الأسرى، بل إن تحريرهم جاء كواحد من النتائج المتعددة لهذه المعركة العظيمة.
- رابعًا: إن الصبغة الوطنية المميزة لهذه الصفقة تكمن في أنها شملت الشريحة الأهم والأكثر تأثيرًا من المعتقلين الذين ينتمون إلى كل ألوان الطيف الوطني الفلسطيني، فالمفرج عنهم في المرحلة الأولى من الاتفاق يتجاوز عددهم الـ 300 مؤبد، ومن المتوقع بعد انتهاء المراحل الثلاث أن يتم الإفراج عن كافة المحكومين بالمؤبدات والذين يقترب عددهم من 600 مقاوم قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهم من كافة الفصائل الفلسطينية المقاومة، بل إن النسبة الكبرى منهم تنتمي إلى حركة فتح.
- خامسًا: إن غالبية المفرج عنهم هم من أعمدة المقاومة الفلسطينية الشامخة، الذين سطروا تاريخها المشرف ومجدها الخالد على مر العقود، فهم من قاد العمل المقاوم في الانتفاضة الأولى عام 1987، والانتفاضة الثانية عام 2000، وانتفاضة القدس عام 2018 وحتى يومنا هذا، وعليه فإن عصب المقاومة الفلسطينية وذراعها القوية ورجالها الأشداء هم من يتم تحريرهم في هذه الصفقات المباركة، وهو ما سيكون له ما بعده في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصةً حركات المقاومة.
وللتدليل على ما يمكن أن يمثله وجود هؤلاء الرجال الأبطال بين إخوانهم ورفاقهم وفي مؤسسات فصائلهم، يمكننا الإشارة إلى أن نخبة من الشهداء القادة في معركة طوفان الأقصى هم ممن تم تحريرهم في صفقة وفاء الأحرار "صفقة شاليط" عام 2011.
- سادسًا: إن هذه الصفقة تبث روح المقاومة المتأججة في أوساط الشباب الفلسطيني الواعد، وتعزز الثقة في قيادة المقاومة ومساراتها النضالية، وترسل رسالة واضحة لهم بأن خلفهم قوة قادرة على تحريرهم في حال وقوعهم في الأسر، وهو ما يعني إبطال مفاعيل سياسة الاعتقال التعسفية وأحكام المؤبد الجائرة التي يعتمدها الاحتلال اليائس، والتي حاول من خلالها تثبيت معادلة العقاب الرادع لمن يشاركون في مواجهته.
- سابعًا: إنها تؤثر في الحالة الوطنية الراكدة، فالجمود الكبير الذي يخيم على المشهد السياسي الفلسطيني والترهل المقيت والشيخوخة المتهالكة في المؤسسات والحياة السياسية الفلسطينية، يتطلب تغييرًا جذريًا في هذا الواقع المرير، وهو ما قد يساهم فيه الأسرى المفرج عنهم، خاصةً في ظل تعطل الآليات الأخرى الهامة كالانتخابات.
ومن المتوقع أن يتم الإفراج عن عدد من القيادات الوازنة من فصائل مختلفة، من بينهم قيادات في حركة فتح العريقة، وحركة حماس الأبية، والجهاد الإسلامي المقدام، والجبهة الشعبية الصلبة، وهؤلاء كان لهم تاريخ حافل في القيادة السياسية وقيادة المقاومة الشرسة قبل اعتقالهم الظالم، ولعل الإفراج عنهم وعودتهم الميمونة إلى الحياة السياسية الفلسطينية سيشكلان رافدًا مهمًا يمكن أن يحرك المياه الآسنة التي أدت إلى هذا الترهل الواضح والضعف الملحوظ ومحدودية الأداء السياسي الفلسطيني.
وبعض هؤلاء القادة الأفذاذ، أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات وإبراهيم حامد ومروان عيسى وعباس السيد وآخرين، كان لهم مساهمة فاعلة في البرنامج السياسي الفلسطيني حتى خلال وجودهم القسري في الأسر، إذ إن وثيقة الوفاق الوطني التي تشكل المشترك البرامجي الوطني وقادت إلى سلسلة من التوافقات الوطنية الفلسطينية الجامعة بعد ذلك، كانت من ثمار الجهد المشترك للحركة الأسيرة ولهؤلاء القادة العظام.
وهذا يعني أن تأثيرًا جوهريًا ومحوريًا في النخبة السياسية الفلسطينية بات وشيكًا، مما قد ينعكس بالإيجاب على البيئة السياسية الفلسطينية والأداء السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية.
